كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وتتفق كذلك مع قول الرجل المؤمن: {يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم}.. وقد يكون ذلك فرارهم عند هول جهنم، أو محاولتهم الفرار. ولا عاصم يومئذ ولات حين فرار. وصورة الفزع والفرار هي أولى الصور هنا للمستكبرين المتجبرين في الأرض، أصحاب الجاه والسلطان!
{ومن يضلل الله فما له من هاد}.. ولعل فيها إشارة خفية إلى قولة فرعون: {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}.. وتلميحاً بأن الهدى هدى الله. وأن من أضله فلا هادي له. والله يعلم من حال الناس وحقيقتهم من يستحق الهدى ومن يستحق الضلال.
وأخيراً يذكرهم بموقفهم من يوسف، ومن ذريته كان موسى عليهما السلام وكيف وقفوا موقف الشك من رسالته وما جاءهم به من الآيات، فلا يكرروا الموقف من موسى، وهو يصدق ما جاءهم به يوسف، فكانوا منه في شك وارتياب. ويكذب ما جزموا به من أن الله لن يبعث من بعده رسولاً، وها هو ذا موسى يجيء على فترة من يوسف ويكذب هذا المقال:
{ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار}..
وهذه هي المرة الوحيدة في القرآن التي يشار فيها إلى رسالة يوسف عليه السلام للقوم في مصر. وقد عرفنا من سورة يوسف، أنه كان قد وصل إلى أن يكون على خزائن الأرض، المتصرف فيها. وأنه أصبح عزيز مصر وهو لقب قد يكون لكبير وزراء مصر. وفي السورة كذلك ما قد يؤخذ منه أنه جلس على عرش مصر وإن لم يكن ذلك مؤكداً وذلك قوله:
{ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً} وقد يكون العرش الذي رفع عليه أبويه شيئاً آخر غير عرش المملكة المصرية الفرعونية. وعلى أية حال فقد وصل يوسف إلى مكان الحكم والسلطان. ومن ثم نملك أن نتصور الحالة التي يشير إليها الرجل المؤمن. حالة شكهم فيما جاءهم به يوسف من قبل، مع مصانعة يوسف صاحب السلطان وعدم الجهر بتكذيبه وهو في هذا المكان! {حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً}.. وكأنما استراحوا لموته، فراحوا يظهرون ارتياحهم في هذه الصورة، ورغبتهم عما جاءهم به من التوحيد الخالص، الذي يبدو مما تكلم به في سجنه مع صاحبي السجن: {أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} فزعموا أن لن يجيئهم من بعده رسول، لأن هذه كانت رغبتهم.
وكثيراً ما يرغب المرء في شيء ثم يصدق تحققه، لأن تحققه يلبي هذه الرغبة!
والرجل المؤمن يشتد هنا وهو يشير إلى هذا الارتياب والإسراف في التكذيب فيقول:
{كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب}..
فينذرهم بإضلال الله الذي ينتظر كل مسرف مرتاب في عقيدته وقد جاءته معها البينات.
ثم يشتد في مواجهتهم بمقت الله ومقت المؤمنين لمن يجادل في آيات الله بغير حجة ولا برهان. وهم يفعلون هذا في أبشع صورة. ويندد بالتكبر والتجبر، وينذر بطمس الله لقلوب المتكبرين المتجبرين!
{الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار}..
والتعبير على لسان الرجل المؤمن يكاد يكون طبق الأصل من التعبير المباشر في مطالع السورة. المقت للمجادلين في آيات الله بغير برهان، والإضلال للمتكبرين المتجبرين حتى ما يبقى في قلوبهم موضع للهدى، ولا منفذ للإدراك.
وعلى الرغم من هذه الجولة الضخمة التي أخذ الرجل المؤمن قلوبهم بها؛ فقد ظل فرعون في ضلاله، مصراً على التنكر للحق. ولكنه تظاهر بأنه آخذ في التحقق من دعوى موسى. ويبدو أن منطق الرجل المؤمن وحجته كانت من شدة الوقع بحيث لم يستطع فرعون ومن معه تجاهلها. فاتخذ فرعون لنفسه مهرباً جديداً:
{وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب}..
يا هامان ابن لي بناء عالياً لعلي أبلغ به أسباب السماوات، لأنظر وأبحث عن إله موسى هناك {وإني لأظنه كاذباً}.. هكذا يموه فرعون الطاغية ويحاور ويداور، كي لا يواجه الحق جهرة، ولا يعترف بدعوة الوحدانية التي تهز عرشه، وتهدد الأساطير التي قام عليها ملكه. وبعيد عن الاحتمال أن يكون هذا فهم فرعون وإدراكه. وبعيد أن يكون جاداً في البحث عن إله موسى على هذا النحو المادي الساذج. وقد بلغ فراعنة مصر من الثقافة حداً يبعد معه هذا التصور. إنما هو الاستهتار والسخرية من جهة. والتظاهر بالإنصاف والتثبت من جهة أخرى. وربما كانت هذه خطة للتراجع أمام مطارق المنطق المؤمن في حديث الرجل المؤمن! وكل هذه الفروض تدل على إصراره على ضلاله، وتبجحه في جحوده: {وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل}.. وهو مستحق لأن يصد عن السبيل، بهذا المراء الذي يميل عن الاستقامة وينحرف عن السبيل.
ويعقب السياق على هذا المكر والكيد بأنه صائر إلى الخيبة والدمار:
{وما كيد فرعون إلا في تباب}..
وأمام هذه المراوغة، وهذا الاستهتار، وهذا الإصرار ألقى الرجل المؤمن كلمته الأخيرة مدوية صريحة، بعدما دعا القوم إلى اتباعه في الطريق إلى الله، وهو طريق الرشاد.
وكشف لهم عن قيمة هذه الحياة الزائلة؛ وشوقهم إلى نعيم الحياة الباقية؛ وحذرهم عذاب الآخرة؛ وبين لهم ما في عقيدة الشرك من زيف ومن بطلان:
{وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد}..
إنها الحقائق التي تقررت من قبل في صدر السورة، يعود الرجل فيقررها في مواجهة فرعون وملئه. إنه يقول في مواجهة فرعون:
{يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد}..
وقد كان فرعون منذ لحظات يقول: {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} فهو التحدي الصريح الواضح بكلمة الحق لا يخشى فيها سلطان فرعون الجبار، ولا ملأه المتآمرين معه من أمثال هامان وقارون. وزيري فرعون فيما يقال.
ويكشف لهم عن حقيقة الحياة الدنيا: {إنما هذه الحياة الدنيا متاع}.. متاع زائل لا ثبات له ولا دوام. {وإن الآخرة هي دار القرار}.. فهي الأصل وإليها النظر والاعتبار.
ويقرر لهم قاعدة الحساب والجزاء في دار القرار:
{من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب}..
فقد اقتضى فضل الله أن تضاعف الحسنات ولا تضاعف السيئات، رحمة من الله بعباده، وتقديراً لضعفهم، وللجواذب والموانع لهم في طريق الخير والاستقامة، فضاعف لهم الحسنات، وجعلها كفارة للسيئات. فإذا هم وصلوا إلى الجنة بعد الحساب، رزقهم الله فيها بغير حساب.
ويستنكر الرجل المؤمن أن يدعوهم إلى النجاة فيدعونه إلى النار، فيهتف بهم في استنكار:
{ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار}..
وهم لم يدعوه إلى النار. إنما دعوه إلى الشرك. وما الفرق بين الدعوة إلى الشرك والدعوة إلى النار؟ إنها قريب من قريب. فهو يبدل الدعوة بالدعوة في تعبيره في الآية التالية:
{تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار}..
وشتان بين دعوة ودعوة. إن دعوته لهم واضحة مستقمية. إنه يدعوهم إلى العزيز الغفار. يدعوهم إلى إله واحد تشهد آثاره في الوجود بوحدانيته، وتنطق بدائع صنعته بقدرته وتقديره.
يدعوهم إليه ليغفر لهم وهو القادر على أن يغفر، الذي تفضل بالغفران: {العزيز الغفار}.. فإلى أي شيء يدعونه؟ يدعونه للكفر بالله. عن طريق إشراك ما لا علم له به من مدعيات وأوهام وألغاز!
ويقرر من غير شك ولا ريبة أن هؤلاء الشركاء ليس لهم من الأمر شيء، وليس لهم شأن لا في دنيا ولا في آخرة، وأن المرد لله وحده، وأن المسرفين المتجاوزين للحد في الادعاء سيكونون أهل النار:
{لا جرم أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار}.
وماذا يبقى بعد هذا البيان الواضح الشامل للحقائق الرئيسية في العقيدة؟ وقد جهر بها الرجل في مواجهة فرعون وملئه بلا تردد ولا تلعثم، بعدما كان يكتم إيمانه، فأعلن عنه هذا الإعلان؟ لا يبقى إلا أن يفوض أمره إلى الله. وقد قال كلمة وأراح ضميره، مهدداً إياهم بأنهم سيذكرون كلمته هذه في موقف لا تنفع فيه الذكرى. والأمر كله إلى الله:
{فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد}..
وينتهي الجدل والحوار. وقد سجل مؤمن آل فرعون كلمته الحق خالدة في ضمير الزمان.
ويجمل السياق حلقات القصة بعد هذا. وما كان بين موسى وفرعون وبني إسرائيل. إلى موقف الغرق والنجاة: ويقف ليسجل لقطات بعد هذا الموقف الأخير. وبعد الحياة:
{فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}.
{وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}..
لقد طويت الدنيا، وعرضت أول صفحة بعدها. فإذا الرجل المؤمن الذي قال كلمة الحق ومضى، قد وقاه الله سيئات مكر فرعون وملئه، فلم يصبه من آثارها شيء في الدنيا، ولا فيما بعدها أيضاً. بينما حاق بآل فرعون سوء العذاب:
{النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}.
والنص يلهم أن عرضهم على النار غدواً وعشياً، هو في الفترة من بعد الموت إلى قيام الساعة. وقد يكون هذا هو عذاب القبر. إذ أنه يقول بعد هذا: {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}.. فهو إذن عذاب قبل يوم القيامة. وهو عذاب سيء. عرض على النار في الصباح وفي المساء. إما للتعذيب برؤيتها وتوقع لذعها وحرها وهو عذاب شديد وإما لمزاولتها فعلاً.
فكثيراً ما يستعمل لفظ العرض للمس والمزاولة. وهذه أدهى.. ثم إذا كان يوم القيامة أدخلوا أشد العذاب!
فأما في الآية التالية فقد كانت القيامة فعلاً، والسياق يلتقط لهم موقفاً في النار! وهم يتحاجون فيها:
{فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار}.
إن الضعفاء إذن في النار مع الذين استكبروا. لم يشفع لهم أنهم كانوا ذيولاً وإمعات! ولم يخفف عنهم أنهم كانوا غنماً تساق! لا رأي لهم ولا إرادة ولا اختيار!
لقد منحهم الله الكرامة. كرامة الإنسانية. وكرامة التبعة الفردية. وكرامة الاختيار والحرية. ولكنهم هم تنازلوا عن هذا جميعاً. تنازلوا وانساقوا وراء الكبراء والطغاة والملأ والحاشية. لم يقولوا لهم: لا. بل لم يفكروا أن يقولوها. بل لم يفكروا أن يتدبروا ما يقولونه لهم وما يقودونهم إليه من ضلال.. {إنا كنا لكم تبعاً}.. وما كان تنازلهم عما وهبهم الله واتباعهم الكبراء ليكون شفيعاً لهم عند الله. فهم في النار. ساقهم إليها قادتهم كما كانوا يسوقونهم في الحياة. سوق الشياه! ثم ها هم أولاء يسألون كبراءهم: {فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار}.. كما كانوا يوهمونهم في الأرض أنهم يقودونهم في طريق الرشاد، وأنهم يحمونهم من الفساد، وأنهم يمنعونهم من الشر والضر وكيد الأعداء!
فأما الذين استكبروا فيضيقون صدراً بالذين استضعفوا، ويجيبونهم في ضيق وبرم وملالة. وفي إقرار بعد الاستكبار:
{قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد}..
{إنا كل فيها}.. إنا كل ضعاف لا نجد ناصراً ولا معيناً. إنا كل في هذا الكرب والضيق سواء. فما سؤالكم لنا وأنتم ترون الكبراء والضعاف سواء؟
{إن الله قد حكم بين العباد}.. فلا مجال لمراجعة في الحكم، ولا مجال لتغيير فيه أو تعديل. وقد قضي الأمر، وما من أحد من العباد يخفف شيئاً من حكم الله.
وحين أدرك هؤلاء وهؤلاء أن لا ملجأ من الله إلا إليه، اتجه هؤلاء وهؤلاء لخزنة جهنم في ذلة تعم الجميع، وفي ضراعة تسوي هؤلاء بهؤلاء:
{وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب}..
إنهم يستشفعون حراس جهنم، ليدعوا ربهم. في رجاء يكشف عن شدة البلاء: {ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب}.. يوماً. يوماً فقط. يوماً يلقطون فيه أنفاسهم ويستريحون. فيوم واحد يستحق الشفاعة واللهفة والدعاء.
ولكن خزنة جهنم لا يستجيبون لهذه الضراعة البائسة الذليلة الملهوفة. فهم يعرفون الأصول. ويعرفون سنة الله، ويعرفون أن الأوان قد فات. وهم لهذا يزيدون المعذبين عذاباً بتأنيبهم وتذكيرهم بسبب هذا العذاب:
{قالوا أو لم تك تأتيكم بالبينات قالوا بلى}.
وفي السؤال وفي جوابه ما يغني عن كل حوار.
وعندئذ نفض الخزنة أيديهم منهم، وأسلموهم إلى اليأس مع السخرية والاستهتار:
{قالوا فادعوا}..